العدد 55

30/04/2018

في بحثه عن «مساهمة أسرة بني الوزير السياسية والعلمية» جمع رئيس التحرير ما هو متناثر في كثير من كتب التراجم التي صنف بعضها على الأبجدية، فتباعدت زماناً وتفرق مكاناً وانفصلت تاريخاً، وبعضها صنف على الطبقات والحقب التاريخية، فجمع فيه كثيرا من المعومات المبعثرة في مكان واحد، وأولى اهتماما خاصاً بموضوع «المطرفية» ودور الأسرة في الدفاع عنها.

جمع بحث – «مساهمة أسرة بني الوزير السياسية والعلمية والاجتماعية من خلال كتاب (ثبت بني الوزير) للهادي بن إبراهيم» – ما ليس مجموعاً وما هو متناثر في كتب التراجم التي تقوم على الأبجدية فتتباعد زماناً، وتتفرق مكاناً، وتنفصل تاريخاً، لذا رأيت أن أجمع تلك التراجم كتاريخ متسلسل مترابط، لتظهر مساهمتها في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لتقرأ تاريخاً، وليس لوامع برقٍ هنا أو هناك.

         وكما قلت في نفس المقال أنه إذا ذُكر الأمير العفيف محمد ذُكِرت المطرفية تلقائياً، ومن هنا تحدثت عن المطرفية من زوايا لم يذكرها محاورو كتاب (حوار عن المطرفية.. الفكر والمأساة) الثلاثة، إلَّا ما لا يمكن تجاوزه، لأسرة اتخذت من تحصيل العلوم هدفها، ومن ثم لم تؤازر إلَّا عادلاً، ولم تنابذ إلَّا ظالماً، لم يكن لها حظٌ مرموق في عالم السياسية منذ جدها الإمام يحيى بن الناصر والإمام يوسف بن يحيى اللذين أخفقا في هذا المجال، فكان درساً استوعبه الأبناء استيعاباً فانصرفوا عن السياسة إلى العلوم فنجحوا فيها، ويجسد هذه الظاهرة الأمير محمد بن المفضل، التي عرضت عليه الإمامة، وكان الوحيد المرشح لها، فعافها فلُقِّب العفيف، ثم استمر هذا التباعد إلى القرن الثاني عشر الهجري، حيث قام الإمام محمد بن عبد الله الوزير وفي القرن الرابع عشر الهجري، حيث قامت الثورة الدستورية برياسة الإمام عبد الله، وكلا التجربتين السياسيتين أخفقتا، ومن ثمَّ لم يكن لدي هذه الأسرة تراكم الخبرة بالإمامة السياسية من نهاية تجربة الإمام يوسف بن يحيى؛ لأنها انصرفت في  طلب العلوم واستقت من ينابيعها الوفر الكثير، وألَّفت وأبدعت في فنون مختلفة.

وبدون أي تنسيق كتب الأستاذ عبد الباري طاهر مقالا عن المطرفية في كتاب «تيارات المعتزلة» للدكتور علي محمد زيد، فأحسن الاختيار، وعرضه للقراء فأحسن العرض، وألمَّ بأغراض الكتاب بحيث يخرج القارئ من مقاله وقد ألمَّ بشجونٍ ما لاقت وعانت وكيف وُئدت، وبدون ذنب قتلت.

تشاء الأقدار بدون تنسيق بيننا أن يُخصِّص الأستاذ الكبير عبد الباري طاهر مقاله عن المطرفية في كتاب (تيارات المعتزلة) للدكتور علي محمد زيد، والحقُّ أنَّ أستاذنا قد انتقى كتاباً ليلخصه فأحسن الاختيار، وعرضه للقراء فأحسن العرض، وألمَّ بأغراض الكتاب فتوفق، حتى ليمكن القول بأنه لم يترك نقطة هامَّة إلَّا وعرضها بأسلوبه الشيِّق المتميز. وأنَّ القارئ يخرج من مقاله وقد ألمَّ بشجونٍ للمطرفية وما لاقت وعانت وكيف وُئدت، وبدون ذنب قتلت.

وكتاب د. علي محمد الآنف الذكر يُعتبر في رأيي من خيرة الكتب عن المطرفية، وأكثرها إلماماً بأفكارها ومعتقداتها، واطلاعه الواسع على كتب المخترعة وكتاب المطرفية (البرهان الرائق) الوحيد الباقي من كتبهم حتى اليوم، فقام بدراسته دراسة موضوعية وقارنه بالفكر المخترعي بموضوعية عالم رشيد. ولعل ممَّا طرحه د. علي محمد أنَّ كُتب القاضي المخترعي الكبير جعفر بن عبد السلام كانت بمثابة فتوى بكفر المطرفية، للإمام ابن حمزة وإباحة قتلها وسبي نسائها وحز رقاب قوم مؤمنين.

وأُضيف هنا أنَّ القاضي العلامة المخترعي عبد الله بن زيد العنسي (ت 677ه/64-1365م) بعد إبادة المطرفية بحوالي 66 عاماً، يحمل نفس المسؤولية الأخلاقية، حيث صال وجال في ميدان ليس فيه أحد من فرسان المطرفية يجادله ويقارعه، فكان كمن جال أمام جثث مدفونة، لقد كانت تلك الكتب بمثابة التبرير لما حصل؛ بل وإبقاء نار الكراهية مشتعلة ضد أناس أبادهم سيفٍ قاسٍ. عن معظم هذا كلِّه تحدث الأستاذ الكبير عبد الباري طاهر بحيادية تامَّة، فأنجز صورة عامة واضحة المعالم.

وفي هذا المقال تناول الدكتور مراد بركات موضوع «إبليس عبر الثقافات والعصور»، وهو حديث جمع بين الدين والفلسفة والأساطير، حيث لا يزال عالم الشيطان بغرائبه وقصصه الأسطورية مفتوحاً، ولا يزال الإنسان متخبطاً في كيفية التعامل مع إبليس ومختلف صور الشيطان وتجسداته السفلية.

من خلال هذا المقال الشيِّق الذي جمع بين الدين والفلسفة والأساطير، حلَّق فيه الكاتب بجناحين قويين في عالمٍ غير مرئي، لبث يتابعه في عالمٍ واسع منذ نشأته الأولى حتى اليوم، وكما يقول البرفيسور «لا يزال ملف عالم الشيطان بغرائبه وقصصه الأسطورية مفتوحاً منذ اللحظات الأولى لخلق الإنسان، ورغم ظهور الدين الحق، وتقدُّم العلم وتطور الفكر الفلسفي، فإنَّ الإنسان لا يزال متخبطاً – على مدى التاريخ، وإلى اللحظة الحاضرة – في فهم عالم الشيطان المثير، وفي كيفية التعامل مع إبليس ومختلف صور الشيطان وتجسداته السفلية»!

وقد ألمَّ البروفيسور في حديثه بموضوع فلسفي معقَّد، فتعرض لـمشكلة الشر، وضرب فيه بقلم عَالم، وطاف في الأفاق الرحاب منذ النشأة الأولى منذ صورة الشر مع أبي البشر آدم عليه السلام،  وعن الجن والشياطين في الأدب العربي القديم، وعن الشيطان في الحضارات القديمة، وعن الشيطان عند اليهود، وعن المسطورات السحرية المكتوبة بالقلم المسماري عند الآشوريين، وعن الشيطان والكونفوشيوسية، وعن بوذا وانتصاره على الشيطان، وعن الشيطان عند الأفريقيين، وعن الشيطان في الثقافة الغربية، وعن التصور الفلسفي للشيطان في العصر الحديث، وعن شرقنة الشيطان، وعن الإسلام والمسلمين في التاريخ، ثم عن نظرية موت الشيطان، وعن عبادة الشيطان والحداثة، وعن الشيطان والرؤية الإسلامية، وأخيراً ختم طوافه الكبير بـالمواجهة القديمة المتجددة.

في مقالٍ شجاعٍ للأستاذ عبد الله صالح القيسي قدم جانبا من «قراءة في مشكلة الحديث»، خلص فيه إلى أنه تمَّ الخلط بين الحديث والسنة، وبين ما هو قولي وما هو عملي، بعكس ما كان سائداً إلى بداية القرن الثاني الهجري، والذي كان يُطلق “السنة” على الفعل المتكرر و”الحديث” على الكلام.

نلوذ هنا بمقالٍ شجاعٍ دبَّجه قلم الأستاذ عبد الله صالح القيسي في مقاله عن «قراءة في مشكلة الحديث»، ولكن للحديث حديث، إذ لم يتعرض حديث للتزوير والكذب، كما تعرَّض الحديث النبوي كما هو معروف، ومن ثمَّ فأنا أقف مع الأستاذ الكريم في تفريقه بين “الحديث” و”السُنَّة” قال «من الأمور الشائعة في تراثنا الحديثي أنَّ الروايات المدونة في كتب الحديث هي السنة ذاتها، وبذلك تمَّ الخلط بين الحديث والسنة، وبين ما هو قولي وما هو عملي، بعكس ما كان سائداً إلى بداية القرن الثاني الهجري، والذي كان يُطلق “السنة” على الفعل المتكرر و”الحديث” على الكلام.

ومضى الكاتب فسجَّل أنَّ أول من جمع المعنيين تحت مسمى واحد هو الإمام الشافعي (ت 204هــ) ونقل عن المرحوم الدكتور طه جابر العلواني معاني “السنة”. وعن الشيخ محمد أبو زهرة وأبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروزي (ت 275 هـ) ثم مضى يضرب في أفاق الحديث ويُلم بأهم طرقه فتحدث عن “المتواتر” ويذهب مع الإمام “شلتوت” إلى وجود إسراف في وصف الأحاديث بـ “التواتر” وتحدَّث عن “الظني” و”القطعي” و”التدليس” وعن اختلاف علماء الجرح والتعديل «ولهذا سنجد أنَّ البخاري قد روى عن رجال ضعّفهم مُسلم، كما أنَّ مسلم روى عن رجال ضعّفهم البخاري ولم يرو لهم». واعتبر تدخل التمذهب في التّقييم إضعافٌ لقاعدة التعديل وتعرض للأحاديث المخالفة لصريح القرآن، ولصريح العقل وغيرها من المواضيع الهامة.

وعن التاريخ المعاصر كتب الأستاذ لطفي نعمان عن «اليمن الخضراء.. شعاعٌ من تجربة النعمان التنويرية»، فأكد فيه أن التاريخ لا يعني الحديث عن شخص، وإنما عن وقائع، وإذا اعتمدنا على هذه القاعدة فإننا نبتعد عن الشخصنة إلى التاريخ المحض، لكوننا نقف أمام واقعة لا إزاء شخص، وبهذا نجد أنفسنا نتحدث عن تاريخ لا أشخاص، ويصبح الحديث تتمات لناقصٍ أو تلويناً لصور لم تكتمل عند هذا أو ذلك.

لا نعتقد أنَّ أحداً قادر على إنكار دور الأستاذ نعمان في التنوير، ولا نعتقد أنَّ أحداً ينكر أنَّ الأستاذ تطور وطوَّر، ولا أحد ينكر شجاعة مذكراته والكشف عن سيرة حياته بوضوح، ولكن من الخير أن ننظر في أيِّ حقلٍ كان تنويره أكثر، ولن يلتمس تنويره في الجانب السياسي – وله دورٌ – لأنَّ السياسة تشغل السياسي  بالحق وبالباطل، وتترك أثارها على كل سياسي تٌقلل من دوره التنويري ، وإنما يُلتمس تنوير النعمان في نضاله من أجل التعليم ونشر المعرفة، وتاريخ حياته يؤكد هذه الحقيقة/ من هنا يمكن رصد توجهه  من المواقف المبكرة من أثر تعاليم “زبيد” إلى أثر  الأستاذ “حيدرة” التي يعتبرها الأستاذ نفسه أول تنويرٍ له، ولا شك أنَّ أزهريته واتصالاته وما يراه وما يسمعه في القاهرة كان من عوامل تطويره، لكن المدرسة الزبيدية والجامعة الأزهرية ظلت تتحكَّم فيه وخاصة في طاعة ولي الأمر فهو كان مع الإصلاح والتغيير ولكن ضمن النظام نفسه. ومما يؤكد لي أنَّ تنويره كان تعليمياً أنه لم يكن ميالاً إلى العنف، ولم يكن ثورياً مندفعاً.

نتفق مع الباحث أنَّ إصدار “اليمن الخضراء” بمحتوياتها التي ذكرها الباحث باختصار كانت شعاعه الأول للتنوير. وكان فراره من تعز مع الزبيري وأخرين إلى عدن بداية الجهد التنويري السياسي عنده، فقبل هذه الفترة بقي للزبيدية والأزهرية في نفسه أثرٌ واضحٌ وكانت قمة التّنوير هو إنشاء كلية بلقيس في عدن.

وفي عالم الشعر والأدب تفيأنا مع الآنسة الأديبة “علا علي الحوثي” من خلال القسم الأول من مقالها «تقنية التناص في الخطاب الشعري عند إسماعيل المقري»، الذي تناولت فيه الحديث عن التناص تعريفه وأنواعه، وتطرقت إلى ذكر كثير من الأمثلة عليها.

تناولت الكاتبة في هذا المقا الحديث عن التناص بمعرفة كاملة به، ملمَّة بأنواعه، شارحة لمعانيها. وقد بدأت بتعريف مصطلحه بأقسامه الثلاثة، وذكرت أنَّ هذا المصطلح جديداً، ولهذا فهو ما يزال يتعرض للتحولات، ولتعدَّد التعريفات الذي لم يكتمل بها بعد أو على حدِّ قول الآنسة الكاتبة «ما يزال مصطلحاً مراوغاً ليس له تعريف محدد؛ إذ يُعدُّ مصطلحاً جديداً لظاهرة نقدية قديمة».

ومن خلال طوافها على أراء النقاد الغربيين ومن خلال تقسيمها التناص إلى اقتباسي، وإحالي، وإيحائي خلصت إلى القول «إنَّ التناص تقنية فعَّالة في فهم النص وتحليله من خلال تفاعل النصوص فيما بينها» و«أنَّ الخطاب الشعري لإسماعيل المقري يزخر بالتقاطع النصي مع نصوص أُخَرْ، نجده محكوماً بطابع كلاسيكي تقليدي كما هو الشأن في تلك الفترة». وأنَّ «اللغة الدينية تتمتع بتأثير وحضور في الوعي الجمعي»، و«أنَّ النص القرآني شكَّل مكوناً جوهرياً من مكونات الخطاب الشـعري لدى المقري، حيث استثمر مفردات “القرآن الكريم” ودلالتها ووظفها في النص الشعري محملة بدلالات تنسجم مع النص الشعري وفق رؤياه الذاتية».

وبعد أن تُلم بهذا النص في حالة تطبيقه تتحول إلى التناص الإحالي، وتعرفه بأنه «الفهم العميق وإمعان النظر فيما تختزله مضامين التناص المكثفة، وملاحظة العلاقة بين النص الحاضر والنص الغائب من خلال إحالة التركيب أو المفردة للنص الغائب» وتمضي فتطبِّق عليه ما طبقته مع سالفه، ثم تتناول التناص الإيحائي، الذي يعتمد على الإيماء دون التصريح، والمعنى دون اللفظ. وكما عملت مع الأولين طبقت الثالث على نصوص من شعر المقري.