العلمانية الجزئية في فكر المسيري.. الحقيقة والوَهْم

في مقاله عن «العلمانية الجزئية في فكر المسيري.. حقيقة الفكرة ووَهْم التوفيقية» قدم الدكتور أحمد محمد الدغشي دراسة نقدية لما ذهب إليه المسيري من صلاحية العلمانية الجزئية للتطبيق في البلاد الإسلامية. وتناول الموضوع في ثلاثة محاور، أحدها: عن مفهوم العلمانية التقليدية وأشكالها الافتراضية. والثاني: عن دلالات العلمانية الجزئية عند المسيري وأبعادها. والثالث: نقد الفكر العلماني وملاحظات المسيري عليه.

ومن الأجواء اليمنية، أنتقل إلى الأجواء المصرية، لأدخل إلى محراب العالم المصري الكبير عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، وما كتب عنها الدكتور الدغشي في مقاله الهام باسم العلمانية الجزئية في فكر المسيري

حقيقة الفكرة.. ووَهْم التوفيقية. وقد جال فيه الدكتور وصال، وألم بالجوانب السكيولارزمية كما كانت عليه في فكر الراحل الكبير، وأحاط بها من ثلاث نواحٍ:

  • مفهوم العلمانية التقليدية وأشكالها الافتراضية
  • دلالات العلمانية الجزئية عند المسيري وأبعادها
  • نقد الفكر العلماني وملاحظاته عند المسيري

وأشهد أن الدكتور الدغشي قد “دغش” عميقًا في ما كتب، وألم بموضوعه أحسن إلمام، بيد أن لي رأيًا في تسمية السكيولارية بالعلمانية، كنت طرحته في إحدى محاضراتي في مركز الحوار العربي، وفي أحد مقالاتي في مجلة «المسار»، وأريد اليوم أن أتحدث في هذا الموضوع أيضًا مادام المقال عن العلمانية بإيجاز واختصار، لأن مفهوم العلمانية مختلَف فيه جدًا، ومعرفة ذلك تساعدنا على استجلاء مقاصدها بالضبط، لأن ترجمة السكيولارية بالعلمانية تعتيم على المعنى المقصود لها، ولا يتقارب لفظها واشتقاقاته معها، ووضح أن كلمة “العَلمانية” بفتح العين تمتّ إلى العالم، والعلمانية بكسر العين تنتمي إلى العلم.

من هنا، يتضح أن الترجمة الخطأ تقود بعيدًا عن الأصل، وتسبب من ثم كثيرًا من الإرباك في فهمها، وتقذف بالمعنى إلى معترك يجعل تطبيقها -ضمن عوامل أخرى- عسيرًا، وذلك ما نشاهده عند من يعارضها في العالم الإسلامي نتيجة لسوء فهم، أو يتبناها مثل تركيا فيسيء التطبيق، وأعتقد أن هذه الترجمة قد ألحقت عوجًا تلقائيًا في إدراك مضمون العلمانية، وتصلبًا وانسدادًا في عروقها، بل تكلسًا في فهمها حتى بلغ الابتعاد عن موحيات Secularism مداه على يد الأتراك الذين ترجموها إلى (لا ديني، بمعنى حرفي، هو «غير ديني» أو «غير منتسب إلى الدين»، وهذا المصطلح الذي ابتدعه المنظر الاجتماعي والقومي الشهير «ضيا كوك ألب»، يفهم بمعنى غير معترف بالدين أو حتى مضاد للدين، مما زاد في العداء الذي استقبل به المصطلح. وفي ما بعد حل محله مصطلح لاييك Layik، وهو دخيل من الفرنسية).

إذن، فإن جذر «علمن» لا يتطابق مع «عالم» ولا «علم». وأكثر من ذلك نفورًا تطابقه مع «لا دينية»، ولكن لأن الناس قد تعاملوا مع كلمة العلمانية وقبلوا بها، ويرددونها بما تآلف الناس عليه، ومن ثم وجدوا ملء أيديهم اغترابًا لتفسيرات متباينة، وإلى أن يكون للمصطلح ترجمة علمية أدق، أو فهم علمي أصح، فإن استخدام الـSecularism هي التي تعطي معناها تمامًا، كما أعطت الديمقراطية معناها بدون ترجمة لها، ومن ثم فإن الأَولى هو استخدام السكيولارزمية بدلًا عن العلمانية الضبابية، والأصل اللغوي والتفسير البياني.

وقد جاء التفسير بأن العلمانية هي ضد الدين من أجل إبعاد الكنيسة عن الحياة السياسية، فاعتقد الكثيرون أنها فصل الدين عن السياسة، أو أنها ضد الدين. في حين أنّ ما حصل في تلك اللحظات المتوهجة كان رفضًا جارفًا لكل ندوب الكنيسة عن جسم الدين المسيحي، ورفضًا للأحكام التي كلّسها التقديس، وصيحة مباركة ضد التجمد المقدس على نصوص غير دينية حقيقية، أي منع التحرك لزحزحة الجمود المطلق. ومن ثم أخذ معناها عند المسلمين والعرب المسيحيين، من ملابسات ما حدث، لا من محتواه ولا من مدلوله. ولأن ظهور مصطلح Secularism قد جاء ضد التجمد المقدس على نصوص غير دينية حقيقية، مما أدّى إلى عدم المبالاة الدينية، أي فصل تشريعات الكنيسة المقدسة -التي كانت تعتبر دينًا سماويًا- عن الدين المسيحي، وعن التحكم السياسي، وفي فورة توهج ثوري أخاذ؛ كل ذلك كوَّن -على الصدى البعيد عند المسلمين والعرب المسيحيين- هذا الفهم، أي فصل الدين عن الدولة، أو العداء للدين. وتم لهذين المفهومين الغلبة، ولم ينظر إلى سواهما. وبهذا الفهم الضيق تم اختزال Secularism عن آفاقه العظيمة المتمثلة في أقانيم الثورة الفرنسية الثلاثة: (الحرية والمساواة والعدالة)، وانحصر في فصل الدين عن الدولة فقط. ونتج عن ذلك أن أصبح فصل الدين عن الدولة هو الضرورة الحتمية لنهضة الأمة، وليس من ورائه من محرك إبداعي آخر. والتاريخ يحدثنا أن عيسى عليه السلام، هو الذي فصل هذه القضية منذ النشأة الأولى «ما لله لله وما لقيصر لقيصر»، وفرّق بوضوح بين دينه الرحيم وبين سياسة البابوات والقياصرة، أي أن السكيولارية أخرجت البابوات من الكنيسة، وأرجعت عيسى عليه السلام إلى كنيسته الحقيقية، وأعادت المسيحية على نحو المسيحية الغربية التي لم تنفصل عن الدين؛ بل إنها كانت رائدة الاحتلال الأوروبي في كل جزء من العالم احتلوه، فكان الصليب والمبشرون هم رواد ذلك الاحتلال، وليس بالضرورة أن يتبع كل دين ما ينهج هذا النهج، فالمسيحية من الأصل هي من فصلت ما لله وما لقيصر، ولكن الإسلام الصحيح لم يفصلهما؛ بل دمجهما معًا في وحدة قوية، وجعل الدين ضميرًا كافلًا لكل من ينحرف. وأنا هنا أتحدث عن الإسلام، وليس عن المسلمين الذين تدانت خيامهم مع خيام البابوية، فنحن بحاجة إلى سكيولارية خاصة تعيد سياسة المسلمين إلى الإسلام.

العلمانية الجزئية في فكر المسيري.. الحقيقة والوَهْم

في مقاله عن «العلمانية الجزئية في فكر المسيري.. حقيقة الفكرة ووَهْم التوفيقية» قدم الدكتور أحمد محمد الدغشي دراسة نقدية لما ذهب إليه المسيري من صلاحية العلمانية الجزئية للتطبيق في البلاد الإسلامية. وتناول الموضوع في ثلاثة محاور، أحدها: عن مفهوم العلمانية التقليدية وأشكالها الافتراضية. والثاني: عن دلالات العلمانية الجزئية عند المسيري وأبعادها. والثالث: نقد الفكر العلماني وملاحظات المسيري عليه.
ومن الأجواء اليمنية، أنتقل إلى الأجواء المصرية، لأدخل إلى محراب العالم المصري الكبير عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، وما كتب عنها الدكتور الدغشي في مقاله الهام باسم العلمانية الجزئية في فكر المسيري.

حقيقة الفكرة.. ووَهْم التوفيقية. وقد جال فيه الدكتور وصال، وألم بالجوانب السكيولارزمية كما كانت عليه في فكر الراحل الكبير، وأحاط بها من ثلاث نواحٍ:

مفهوم العلمانية التقليدية وأشكالها الافتراضية

دلالات العلمانية الجزئية عند المسيري وأبعادها

نقد الفكر العلماني وملاحظاته عند المسيري

وأشهد أن الدكتور الدغشي قد “دغش” عميقًا في ما كتب، وألم بموضوعه أحسن إلمام، بيد أن لي رأيًا في تسمية السكيولارية بالعلمانية، كنت طرحته في إحدى محاضراتي في مركز الحوار العربي، وفي أحد مقالاتي في مجلة «المسار»، وأريد اليوم أن أتحدث في هذا الموضوع أيضًا مادام المقال عن العلمانية بإيجاز واختصار، لأن مفهوم العلمانية مختلَف فيه جدًا، ومعرفة ذلك تساعدنا على استجلاء مقاصدها بالضبط، لأن ترجمة السكيولارية بالعلمانية تعتيم على المعنى المقصود لها، ولا يتقارب لفظها واشتقاقاته معها، ووضح أن كلمة “العَلمانية” بفتح العين تمتّ إلى العالم، والعلمانية بكسر العين تنتمي إلى العلم.

     من هنا، يتضح أن الترجمة الخطأ تقود بعيدًا عن الأصل، وتسبب من ثم كثيرًا من الإرباك في فهمها، وتقذف بالمعنى إلى معترك يجعل تطبيقها -ضمن عوامل أخرى- عسيرًا، وذلك ما نشاهده عند من يعارضها في العالم الإسلامي نتيجة لسوء فهم، أو يتبناها مثل تركيا فيسيء التطبيق، وأعتقد أن هذه الترجمة قد ألحقت عوجًا تلقائيًا في إدراك مضمون العلمانية، وتصلبًا وانسدادًا في عروقها، بل تكلسًا في فهمها حتى بلغ الابتعاد عن موحيات Secularism مداه على يد الأتراك الذين ترجموها إلى (لا ديني، بمعنى حرفي، هو «غير ديني» أو «غير منتسب إلى الدين»، وهذا المصطلح الذي ابتدعه المنظر الاجتماعي والقومي الشهير «ضيا كوك ألب»، يفهم بمعنى غير معترف بالدين أو حتى مضاد للدين، مما زاد في العداء الذي استقبل به المصطلح. وفي ما بعد حل محله مصطلح لاييك Layik، وهو دخيل من الفرنسية).

إذن، فإن جذر «علمن» لا يتطابق مع «عالم» ولا «علم». وأكثر من ذلك نفورًا تطابقه مع «لا دينية»، ولكن لأن الناس قد تعاملوا مع كلمة العلمانية وقبلوا بها، ويرددونها بما تآلف الناس عليه، ومن ثم وجدوا ملء أيديهم اغترابًا لتفسيرات متباينة، وإلى أن يكون للمصطلح ترجمة علمية أدق، أو فهم علمي أصح، فإن استخدام الـSecularism هي التي تعطي معناها تمامًا، كما أعطت الديمقراطية معناها بدون ترجمة لها، ومن ثم فإن الأَولى هو استخدام السكيولارزمية بدلًا عن العلمانية الضبابية، والأصل اللغوي والتفسير البياني.

 وقد جاء التفسير بأن العلمانية هي ضد الدين من أجل إبعاد الكنيسة عن الحياة السياسية، فاعتقد الكثيرون أنها فصل الدين عن السياسة، أو أنها ضد الدين. في حين أنّ ما حصل في تلك اللحظات المتوهجة كان رفضًا جارفًا لكل ندوب الكنيسة عن جسم الدين المسيحي، ورفضًا للأحكام التي كلّسها التقديس، وصيحة مباركة ضد التجمد المقدس على نصوص غير دينية حقيقية، أي منع التحرك لزحزحة الجمود المطلق. ومن ثم أخذ معناها عند المسلمين والعرب المسيحيين، من ملابسات ما حدث، لا من محتواه ولا من مدلوله. ولأن ظهور مصطلح Secularism قد جاء ضد التجمد المقدس على نصوص غير دينية حقيقية، مما أدّى إلى عدم المبالاة الدينية، أي فصل تشريعات الكنيسة المقدسة -التي كانت تعتبر دينًا سماويًا- عن الدين المسيحي، وعن التحكم السياسي، وفي فورة توهج ثوري أخاذ؛ كل ذلك كوَّن -على الصدى البعيد عند المسلمين والعرب المسيحيين- هذا الفهم، أي فصل الدين عن الدولة، أو العداء للدين. وتم لهذين المفهومين الغلبة، ولم ينظر إلى سواهما. وبهذا الفهم الضيق تم اختزال Secularism عن آفاقه العظيمة المتمثلة في أقانيم الثورة الفرنسية الثلاثة: (الحرية والمساواة والعدالة)، وانحصر في فصل الدين عن الدولة فقط. ونتج عن ذلك أن أصبح فصل الدين عن الدولة هو الضرورة الحتمية لنهضة الأمة، وليس من ورائه من محرك إبداعي آخر. والتاريخ يحدثنا أن عيسى عليه السلام، هو الذي فصل هذه القضية منذ النشأة الأولى «ما لله لله وما لقيصر لقيصر»، وفرّق بوضوح بين دينه الرحيم وبين سياسة البابوات والقياصرة، أي أن السكيولارية أخرجت البابوات من الكنيسة، وأرجعت عيسى عليه السلام إلى كنيسته الحقيقية، وأعادت المسيحية على نحو المسيحية الغربية التي لم تنفصل عن الدين؛ بل إنها كانت رائدة الاحتلال الأوروبي في كل جزء من العالم احتلوه، فكان الصليب والمبشرون هم رواد ذلك الاحتلال، وليس بالضرورة أن يتبع كل دين ما ينهج هذا النهج، فالمسيحية من الأصل هي من فصلت ما لله وما لقيصر، ولكن الإسلام الصحيح لم يفصلهما؛ بل دمجهما معًا في وحدة قوية، وجعل الدين ضميرًا كافلًا لكل من ينحرف. وأنا هنا أتحدث عن الإسلام، وليس عن المسلمين الذين تدانت خيامهم مع خيام البابوية، فنحن بحاجة إلى سكيولارية خاصة تعيد سياسة المسلمين إلى الإسلام.