ومن الحاضر إلى الماضي، حيث نجد عند باحثي الآثار فيضاً من الكشوفات التاريخية توجب إعادة النظر في إخباريات وهب بن منبه (114-151هـ/733م) و”كعب الأحبار” (بعد 39ه، العقد 660م) و”عبيد بن شرية” (مختلف في تاريخ وفاته)، المنثورة بكثافة في تاريخ “الطبري” (26 شوال 310هـ/16 فبراير 123م)، وغيره، والتي استمرت زمناً تمد المؤرخين بفيض من المختلقات متدفق. ومضت “الإخباريات” الأسطورية ردحاً من الزمن كأنها “أخبار” موثوقة، حتى جاءت الأبحاث الحديثة تفتح المناطق المغلقة، وإذا بنا من خلال نوافذ نطل على عالم آخر تماماً، جهله البعض، وتجاهله البعض، وحاربه البعض بغيظ متطرف ورعونة بلهاء.
يدين العصر اليمني الحاضر للدكتور الصديق “يوسف عبد الله” بارتياد هذا الباب، وبحسب علمي فهو أول من اهتم بلغة “المسند”، ودرسها دراسة علمية، ومنها اطلع على تاريخ آخر، ثم توسعت دائرة البحث بجهود دكاترة وأساتذة كرام قاموا بنشاط قوي في التنقيب في أكثر من موقع، وإذا بـ”الحضارة اليمنية” تبدأ تسفر عن وجهها المضيء، وإذا بنا لم نعد نفتخر بمجهول لا نعلمه، بل بمعلوم نعتز به.
ومن واجب الوفاء، ونحن نتحدث عن “اللغة السبيئة”، أن نذكر بالخير والثناء الدكتور المرحوم “محمد علي الغول” (5 ربيع الأول 1404هـ/10 ديسمبر 1983م) الذي أولى اهتمامه بـ”اللسان السبئي”، وقام بزيارة علمية “لليمن” عام 1394هـ/1974م، وألف عنها الكثير من مثل “مكانة نقوش اليمن القديمة في تراث اللغة العربية الفصحى”، ونشره في مجلة “الحكمة”، العدد 38، السنة الرابعة، 1975، ومثل كتابه “المعجم السبئي”، بالاشتراك مع ألفريد بيستون، وجاك ريكمانز، وفالتر مولر، ونشرته مطبعة لوفان دار بيترز، وبيروت المكتبة اللبنانية، 1982، ومثل مقاله عن “الهمداني، لسان اليمن وأعظم مفاخرها”، نشرته مجلة “العربي”، العدد 23، ص48-52، 1960، وصدر له بعد وفاته: كتاب “غزة في نقوش جنوب جزيرة العرب”، ونشر في “المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ بلاد الشام (فلسطين)”، المجلد الثاني، ص367-376، 1983. فعلى ذكراه رحمة وسلام.
ولـ”المسار” أن تعتز بفتح صفحاتها لعلماء الآثار، ولها أن تسعد بأن يختارها الدكتور الباحث “علي محمد الناشري” والأستاذ الباحث “عباد الهيال”، لنشر بحثيهما عن النقوش. فالآثار تشكل وحدها مراجع الماضي وحافظة تاريخه، ومن ثم فالاهتمام بها عبادة تاريخية ملزمة، لأنها هي الأثر الوحيد الذي يسوقنا إلى معرفة تاريخ مجيد منسي، وإلى حضارة باذخة مدفونة. ومن هنا فلا يسع “المسار” إلا أن تقدر تقديرا عاليا جهودهما الصعبة والعسيرة، والتي تفوق صعوبة مؤرخي الكتب الذين تتيسر لهم المراجع بسهولة ويسر، عبر الكتاب وعبر الإنترنت بدون أن يغيروا جلستهم، أما مؤرخو الآثار والنقوش فهم يبذلون جهداً عير مسبوق، فيمصون يضربون في الأرض ابتغاء استنطاق صخور صماء، وإذا بها تفصح عن حقائق ليس لنا بها علم، وليس ذلك فحسب، بل نراهم يمضون في بيد وراءها بيد، يظلون يبحثون في مناخ عميق الصمت، حتى يتمكنوا بعد تعب مرهق وخطير من استخراج “واحات” هنا وهناك، وسوف يأتي اللاحق فيكمل مسيرة السابق، فتتلاقى الواحات ببعضها بعضاً، وتعاد الحضارة إلى سابق عهدها.
من خلال قراءتي لبحثيهما، وجدت فيهما – والحق يقال – روحاً علمية موضوعية متزنة خالصة للبحث وحده، وليس لهما من هدف إلا نشر ما وجداه على ما هو عليه، بدون إخراجه من أهدافه، ومحاولة تسييس الماضي كما سيس الحاضر، فصانا التاريخ بأمانة العلماء المخلصين.
تناول بحث الدكتور “علي محمد الناشري”: “نقش سبئي جديد من جبل كنن”، وتناول بحث الأستاذ “عباد بن علي الهيال”: “من نقوش المسند الحميري في خولان”، وكلا البحثين كانا في منطقة “خولان العالية”، وفي منطقتين متقاربتين من بعضهما، وقريبتين من “صنعاء” أيضاً. وبالرغم من هذا التقارب، فإن لهذين البحثين قيمة تاريخية مهمة للغاية، ذلك أنهما يتحدثان عن حضارتين اختلفتا اسماً، واتحدتا نوعاً، أو قل حضارة واحدة ذات وجوه متعددة؛ الأول: عن “الحضارة السبئية”، والثاني عن “الحضارة الحميرية”، فقدما للقراء قراءة في بعض جوانب حضارة خلاقة.
أستطيع أن أجزم بأن كل بحث قد أحاط بنقشه علماً، وطرح جديداً، وأثرى تاريخاً.