ولولا اللغة لما أمكن لمولانا “جلال الدين الرومي” أن يُحاول هداية النفس المادية المثقلة بأطماعها وجشعها وكرهها بغية تطهيرها وإحلال الصفاء والمحبة فيها، ولما أمكن للإمام “المقبلي” أن يضيء الطريق للتائهين، ولهذا فلأنَّ “المسار” تفسح المجال لما تخطُّه يد الأستاذ الدكتور “حميد العواضي” من كتابات قيِّمة عن اللغة العربية، بل عن اللغة نفسها، لأنَّ من ليس له لغةٌ ليس له تاريخٌ وليس له حضارةٌ، فهو موجودٌ كمفقود لم يترك وراءه أثراً. وقد تكون اللغة نقشاً على حجر، أو تصويراً على مدر، أسهمت بهما للمتأخر في معرفة حياة قوم متقدمين اندثروا، وحفظت معالم من حياتهم في تلك النقوش والآثار، وكان كلّما عُثِر عليها أكثر اتسعت وتوسَّعت مساحة التاريخ، ومن المؤكد أنَّ تلك النقوش وتلك الصور كانت هي المقدمة الأولى لظهور أعظم اختراعٍ، وهو الحرف. ولولا الحرف لما ظهرت أيَّة حضارة.
لهذا فإنَّ “المسار” تنشر ما خطه يراع الأستاذ الدكتور “حميد المسعى والمساعي” في هذا السبيل باعتباره دليلا لتلمُّس حضارةٍ سابقة، وتفهُّماً لحضارةٍ معاصرة، وإنماءً لحضارةٍ قادمة، وإحياءً لشعورٍ خامد. واللغة العربية بكلِّ تأكيدٍ غنيَّة خصبة قادرة بتفوَّق على استيعاب كلَّ ما هو جديد.
وفي هذا العدد كتب مقاله “نحو فهرس عربي لأدبيات علم الترجمة”، وقد أحسن وأصاب في هذا المقال، لأنه يتحدث عن ضرورة وجود هذا الفهرس ليُسهِّل الاطلاع على عوالم أخرى من خلال اللغة العربية نفسها. وهو لهذا السبب قد طاف في مقاله هذا طوافاً كونياً مفيداً في حدِّ ذاته من حيث إنه قدَّم لنا عرضاً شاملا، فأشرفنا من خلاله على حقلٍ واسعٍ من حقول المعرفة. ثم تحدَّث عن علم الترجمة حَدُّه ومجالاته، وعن العربية في نطاق اللغات التي توفر لمستعمليها شكلا من الاستقلال المعرفي أو الكفاية اللغوية المناسبة؛ ثم تحدَّث عمَّن أسهم في هذا الباب. وتطرَّق إلى مشروع العواضي 1994م، وعن المشروع الذي يُقدِّمه اليوم، ثم تحدث عن نحو فهرس عربي لأدبيات علم الترجمة، وبعد جولاتٍ متنوعةٍ ومفيدةٍ وصل إلى الخاتمة ليقول: «في ختام هذا التقديم لابد من الإشارة إلى أنَّ الفهرس في وضعه الحالي يشكل معطىً علمياً لدرس تطوُّر علم الترجمة عند العرب. فهو يُظهر ما كتبوا، وما ترجموا، وكيف فهموا نظريات الترجمة، وماذا أضافوا إليها. كما يكشف الفجوات التي لمَّا تمتلئ بأدبيات عربية أو معرَّبة فيها. الخ».
والحق أنَّ جهود الأستاذ الدكتور “حميد المسعى والمساعي”، تستدعي كلَّ التقدير لما يبذله من جهد وموضوعية.