ليس الحديث عن الفيلسوف ولا عن الفلسفة بسهل ولا ميسور، إلا لمن أعطي بسطة في العلم والعقل. ذلك أن الفلسفة لا تكتفي بظواهر الأمور، فيسهل التقاط أسرارها، لأنها بطبيعتها ليست استكشاف “المرئي”، وإنما الوصول إلى “اللامرئي”، أي الغوص في علم الغيب الذي سمح الله به للعقول الجبارة أن تستكشفه {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}، وضمن هذا السماح كان للفلاسفة المسلمين الحق في البحث والاستقصاء.
وهكذا حلّق البروفيسور الدكتور مع “ابن باجه الفيلسوف المتوحد”، في فضاء وسيع، أطلعنا من خلال هذ الفيلسوف على ما لا يعرفه “العلماء الماديون” من عالم مغاير، ومن ثم فتح “الباب الأندلسي” على “العالم اللامرئي”، فنرتاد معهما مناهل وحقولاً.
ولنا أن نعجب بهذا الفيلسوف الذي انطلق من مناخ مغلق ومرحلة تاريخية مجدبة؛ لم تعد تفيض بما كانت تفيض به “الأيام الإسلامية الزاهرة في إشبيليا”، والتي كانت قد ولت، “وولت معها الحقبة التي كان فيها الطوائف يجمعون حولهم العلماء والدارسين، ويغدقون عليهم”. لقد جاء “بعد هؤلاء المرابطون كمنقذين من ضغط الإفرنج المتزايد، إلا أنهم لم يكونوا منقذين فعلاً في نظر فيلسوفنا. فالسلطة الحقيقية كانت قد أخذت تنتقل إلى أيدي الفقهاء والمقلدين من رجال الدين. ففي الوقت الذي كان هؤلاء ينعمون فيه بالسلطة والنفوذ، كان الفلاسفة والمفكرون يلاقون ألواناً من الاضطهاد في العالم الإسلامي بجزأيه الشرقي والغربي. في ظل هذه الظروف الحالكة جاء ابن باجة الذي كان حاذقاً ماهراً في الفلسفة والمنطق وعلوم الفلك والطب والنبات والرياضيات والموسيقى، وباختصار بجميع ضروب المعرفة النظرية والعملية في عصره، إضافة إلى الشعر والأدب، فضلاً عن علوم الدين واللغة”