يستهل هذا العدد بمقال من أهم المقالات، تناوله قلم صنّاع، فأما الموضوع فهو فلسفة الاختلاف وثقافة الحوار، وأما كاتبه فهو الأستاذ الدكتور زيد بن علي الفضيل. فهذا الخلاف شكّل -ومازال يشكل- عائقًا كثيفًا لا يحول بين تلاقي قطر وقطر، وإنما داخل القطر نفسه، بل أحيانًا دخل الدار نفسها. وفي هذه الحال يصبح التقارب والتداني صعب المنال، ومن ثم يجب إزالته عبر الكلمة الراشدة.
وفي هذه السبيل قدم الأستاذ الدكتور هذا البحث الراشد والرشيد، فأرشد إلى أن الحل الوحيد لإزالة الأسوار المذهبية المانعة للتواصل، هو الحوار، والحوار وحده، وليس ثمة طريق آخر، فالحوار إخصاب وإثراء، والخلاف تجفيف وتصحير، وقد وضح الدكتور الفضيل ذلك بقوله إن الحوار: “يمثل خصيصة تتميز بها كل المجتمعات الحضارية الهادفة إلى تحقيق التقدم والرقي وصولًا إلى الغاية المنشودة وفق ما تقتضيه مختلف الخطط والاستراتيجيات المقررة، كما يعكس شكلًا ثقافيًا متطورًا تسري جنباته بين فئات ذلك المجتمع، وهو ما كان ينطبق على الأمة الإسلامية في بعض فتراتها السالفة، التي عاشت سمتًا ثقافيًا عالي المستوى، تمثل في ما أبدعته العقول العربية من فكر إنساني، وسلوك حضاري، أثمر عن نتاج مادي ومعنوي، كان له الأثر البارز في نمو الحضارة الإنسانية بصفة عامة، في الوقت الذي غرق فيه المجتمع الأوروبي في ظلمات جهله السحيقة، فانعكس ذلك على مختلف جوانب حياتهم”.
وأشار إلى تبدل المواقع، ففي حين تخلى المسلمون عن ثقافة الحوار، فانحدروا، اعتمده الأوروبيون، فتطوروا. وقد شرح الأستاذ الدكتور هذا التبديل بلسان عربي مبين، ومن أهم النقاط التي أبرزها أن تلك المعضلة قد عطلت أهم ما في الإنسان من دوافع الإبداع، وهي: “الحرية الفكرية، فتعطلت آلية حركة البحث والنقاش، وتلاشت ملامح الحرية والاختيار أمام تأثيرات أنماط التفكير التسلطي السائد في المجتمع، المرتكز على فعل الأنا المتحجر”.
ومن ثم دعا دكتورنا الكبير إلى إحياء الحرية الفكرية، وتلمسها في تعاليم القرآن الكريم، وحياة رسول الله الأمين، والدليل على ذلك هو دعوة الكتاب في العديد من الآيات إلى وجوب تشغيل العقل وتحريكه.
ثم تحدث عن أهمية الحوار، التي أكدتها «التجارب البشرية السالفة، وبرهنت حقائق الصيرورة التاريخية على أن الحوار، وليس القوة، هو المخرج الحقيقي لكل الأزمات السياسية والعسكرية والفكرية وغيرها، وبخاصة إذا ما تعلق الأمر منها بالشق المجتمعي الوطني، شرط أن تتحقق فيه صفة الوطنية، بمعنى أن يكون الوطن بماضيه وحاضره ومستقبله، بمقوماته وأركانه، بأفراده وجماعاته، بنسائه ورجاله، صغاره وكباره، ترابه وسمائه، ماثلًا أمام كل المتحاورين”. كما أثبت أن الطائفية والمذهبية هما نتاج طبيعي للخلاف العقيم؛ “إذ الإشكال كائن في طبيعة ومضمون مرجعية الخلاف الذهنية، وتبني جانب من التصنيف وفقًا لرؤية مذهبية أو طائفية أو مجتمعية كذلك».
وفي عنوان ماذا بعد؟ تحدث الدكتور بعد طواف علمي واسع حول هذه المعضلة «وهو: وماذا بعد؟ ماذا نريد اليوم؟ وكيف نعالج هذا التزمت والنزق المستشري بين جوانبنا؟ وكيف نحيد نتائجه بمنهجية مجتمعية؟ لاسيما حين يتابع أحدنا مواقع الصراع المحتدم في وطننا العربي، وهل الإشكال نابع من محتوى موروثنا الفكري؟ وفي حال ذلك، هل تؤدي القطيعة المعرفية مع الموروث إلى خلاصنا وانتهاء نسق نزقنا الذهني القائم على مفاهيم انطباعية وليس منهجية للأسف»؟
وأجاب: “في تصوري أن ذلك لن يكون، وأن أية قطيعة معرفية مطلقة سيكون لها أثرها الأسوأ على سمتنا الذهني وسلوكنا الحياتي، حيث سيتم تفريغ أجيالنا من مضمون يحتاج إلى تهذيب فقط، ودون أن نملأ صدورهم بمضمون آخر متسق مع جيناتهم الذهنية، وهو إشكال كبير لا يتفكر به المتفكرون اليوم للأسف”.
ودعا في مقاله الخصب الثري إلى تهذيب موروثنا الفكري والفقهي “انطلاقًا من كونه موروثًا بشريًا قائمًا على الاجتهاد الذي يرتكز في قانونه الرئيس على نسبية الحقيقة، فرأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ويتابع فيقول: وحتى يتسنى ذلك عمليًا وبشكل مناسب، فنحن بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة مفاتيح تفكيرنا من واقع العودة إلى قيم القرآن الفكرية التي اشتغل بها علماء المدرسة العقلية في تراثنا الفكري، والتي تكرس خاصية التدبر والتفكر والتأمل وإثارة سؤال الحيرة والدهشة، وحتمًا فإن مجتمعًا يقوم على ذلك سيؤمن بقيمة الإنسان بعيدًا عن أي اصطفاف ديني أو مذهبي أو عرقي، وسيخط له طريقًا آخر يقوم على منظومة قيم أخلاقية سامية، أو منظومة مادية منفعية. وفي كليهما لن يكون أحدهما موقعًا عن رب العالمين على الصعيد السياسي أو الاقتصادي وصولًا للفكري الديني والمجتمعي”.
ومن الخير كله أن أترك للقارئ الكريم أن يتجول بنفسه في هذا المقال، وكلي ثقة بأنه سيخرج منه مزودًا بموفور وفير.