يصدر هذا العدد في ظل ظروف حزينة أيضًا، لفقد روابط “الأخوة الإسلامية” و”العربية” حيث تتمزق تلك الروابط تحت ضربات المذهبية البغيضة، فيسيل الدم غزيرًا، فيزيد من نمو أشواك التعصب السامة، وتزداد ضراوة الصراع المذهبي بين أبناء المذهب الواحد في البلد الواحد، ضمن دين واحد، وإله واحد، ولغة واحدة، وضمن مواطنة واحدة، وعادات واحدة. إن البيت يتشقق من داخله، وإن جوانبه تتصدع وأركانه تتهدم، وإذا لم يتداركه العقل الحكيم بسرعة فسيتحول إلى أطلال تذروه الرياح ، وعندئذ لا تنفع الشكوى، ولا يجدي الصياح.
ومن أجل مواجهة هذا السيل الداهم كان مقال ” التسامح عند الإسماعيلية الفاطمية” محاولة لصد هذا التيار الجارف، وإنها لمحاولة ضعيفة لا تقوى على مواجهته، لكنها جهد المقل، أو بالأحرى نداء لمن يسمع، فيسعى بكل جهده لصد هذا التيار الجارف. إنَّ كلمةً من هنا، وكلمةً من هناك، وحرفًا يعانق حرفًا، وجملة تحتضن أخرى ستشكل منها في النهاية “بيان التسامح” فينير الطريق للتائهين في الظلمات.
سقطت “الثورة الدستورية” ليلة الجمعة بعد صلاة العشاء في 3 جمادى الأولى1367هـ/ 12 مارس1948م وسيق زعماء “الثورة الدستورية” من مناطق عدة تباعا بالسلاسل والأغلال إلى “حجة”، معقل الإمام “أحمد”، ولم يكد يمض 24 يوما حتى استهل الإمام “أحمد” بداية جزر الرقاب بدون محاكمة سوى برقية يرسلها إلى نائبه: أن اقطعوا رأس فلان، فيؤخذ الضحية إلى “ميدان حورة” أمام المسجد الكبير لتقطع رقبته، وباستثناء إمام الدستور “عبد الله بن أحمد الوزير” والمناضل الكبير “زيد الموشكي “الذين قطع رأساهما في ساحة السجن المغلق صباح يوم الخميس28 جمادى الأولى 1367هـ/ 8 ابريل 1948م. وما عداهما فقد كان “ميدان حورة” ساحة لإعدام الشهداء.
ولأن هذا العدد من “المسار” يخرج في هذه الفترة بين جمادى الآخرة – وشعبان/أبريل- يونيو فسنتوقف هنا عند سقوط “الثورة الدستورية وما تركته ورائها من ملاحقة الهاربين من زعماء “الثورة الدستورية” “عبد الله بن علي الوزير”، “الفضيل الورتلاني”، “محمد الزبيري”، “يحيى زبارة”.
يصدر هذا العدد بعد رحيل صديق المسار الأستاذ العالم المفكر جمال البناء..
لقد رحل “جمال البنا” فرحل معه الفكر الحر، ورحلت معه الشجاعة العقلية، وخلت الساحة من فارس باسل، عزَّ له النظير. لقد ترجَّل “جمال”عن فرسه بعد نضال طويل، وأغمد قلمه، وتوارى عن الناس في جدثه المنير، ولكن صَدى قلمه القاصف سوف يظل زمنًا طويلًا يضيئ – بأفكاره الإصلاحية، وآرائه الجريئة الصادمة- مناخًا تكتنفه السحب السوداء، وتخيم عليه العتمة المظلمة، وسيظل يواصل شعاعه حتى يضيء الآفاق المغلقة بنور ربه وعقله. وأنا على يقين أن دعواته المبرورة، ونداءه المشكور ستشكل أفقًا متميزًا واسعًا سيظل يتوسع حتى يشكل مساحات واسعة. لقد فتح بابًا لن يغلق.